يقول على لسان آدم ـ عليه السلام ـ :
متى يسفر الأفــق الغيهب *** وتسمع، يا رب، ما أطلب؟
رأيتك قبل انهمـار السنين *** يؤانسني وجهك الطيب
وأنت قريب إلي، قــــريب *** كنفسي مني بل أقرب
تحدثني فـــــــأحس وميضا *** تفجر بي نبعه الصيب
إن آدم يحن إلى الزمن الماضي يوم كان إلى جوار ربه قبل أن تطأ قدماه ثرى الفردوس، يوم كان يعيش في أنس وصفاء في ظل الرحمن. ولكم ماذا جرى له عندما حل في الجنة؟ يقول:
ولما قفلت إلى ماوراء *** الغيوم وحجبك الكوكب
تهاوت على الكون ريح الأسى *** وهبت أعاصيرها الغلب
ومرت ألوف السنين على *** ألوف من الدهر لا تنضب
تركت فتاك وحيدا شريدا *** على الأرض ليس له مأرب
وما أربي؟ وأنا المستطيع *** القوي المطاع الذي يرهب
إذا شئت غيضت هذا الفرات *** وزحزحت لبنان لة أرغب
لقد أصبح الآن وحديا يصارع رياح الأسى ويعاني التشرد والوحدة القاتلة. ولكن بالمقابل، فإن الله قد منحه العزم وأعطاه القوة بحيث يستطيع تحقيق مآربه، فلو أراد أن يغيض نهر الفرات أو يزحزح لبنان من مكانه لفعل، والكائنات جميعا رهن إشارته، فما باله إذن؟ وما السر في شقائه؟ يجيبنا آدم بقوله:
وضعت يدي على الكائنات *** جميعا فهن كما أطلب
وبي سأم...
وبي سأم من قواي فهلا *** مريد ينازعني أغلب
لعلي أحس جديدا وأبلو *** جديدا من العيش لا أرقب
أنا اليوم صنو الكآبات باتت *** وبت وصدري بها مخصب
فما للسرور إلى خاطري *** سبيل وليس له مسرب
السر كامن في كون آدم قويا بلا منازع في الجنة، فقد أصابه الملل والسأم من جراء ذلك، وهو يحن إلى ندقوي ينافسه ويخرجه من الرتابة التي يعانيها، يريد أن يتذوق طعم الجديد الذي بدونه لا يمكن أن يسر له خاطر أو يسعد له قلب. ولكن كيف السبيل إلى ذلك وقد جعله الله سيد الكائنات؟ يقول:
وطاب لعيني أن تبصرا *** شبيهي، شبيه السنا منظرا
شبيها يكون قولا تهم الجبال *** وسيد أسياده المؤثرا
إذا قال قولا تهم الجبال *** وتعنو البحار وتصغي الذرى
ويجري، فلا الريح أسرع جريا *** ولا النور منه إذا ما جرى
له خفة الفكر، فهو بكل *** مكان من الأرض عين ترى
وقمت إلى حفنة من تراب *** وقلت لها: سأعز الثرى
غدا أنت بهجة هذا الوجود *** وأنت حكاياته لو درى
فقد سخر الله له الجبال وذراها وأعطاه سرعة التفوق تلك عند النور والريح، وحباه فكرا ثاقبا وقوة بصيرة يصلان به إلى كل أصقاع الجنة، وهو فوق ذلك الأفضل والأعز من سائر المخلوقات، إنه الأثير عند ربه، بل هو بهجة الوجود بأسره.
ولكن هذه القوة الخرقة التي منحها الله لا تحل مشكلته فهو يحن لمن يوازيه في جبروته حتى يشعر بالمتعة في حياته
هنا يخل الله حواء لتؤنس وحدته وتزيل عنه السأم، فتنفرج أساريره ويفرح لقدومها يقول مخاطبا حواء:
حواء، هل أنت إل *** أغنيتي وسؤالي
وزهرة أطلعتها ***الأشواق عبر الليالي؟
لأنت مفرد لحن *** مثيله من محال
فقد وجد أدم في حواء ضالته المنشودة