سارة سوسو Admin
عدد المساهمات : 3024 17837 السٌّمعَة : 100 تاريخ التسجيل : 01/01/2011 العمر : 35
| موضوع: قلوب يعقلون بها الخميس مارس 17, 2011 10:06 pm | |
| لكاتب: الدكتور خالد العبيدي
مقدمة
مع بدء التطور العلمي منذ ما يقرب من القرنين من الزمان والعلماء يتحدثون عن عقلانية ومادية ومنطقية التفسير للأشياء وأن التجربة والسبب والبرهان العلمي هو المعيار الحقيقي للحكم على الأشياء. ولقد تعزز هذا الأمر حتى أصبح التصور أن الإنسان إنما هو عقل بلا روح وأن الأحاسيس التي يمتلكها البشر إنما هي منطلقة من العقل أي الدماغ، واستمر تعزيز تلك الأمور مع التوصل لتشريح الدماغ ومعرفة الجهاز العصبي للإنسان وتحديد مناطق الذاكرة في الدماغ وأن النصف الأيمن مسؤول عن الفطرة والأحاسيس بينما الجزء الأيسر مسؤول عن المنطق والبرهان والسببية.
لكن ما حصل بالصدفة خلال الأعوام العشرين السابقة بدأ يبدد تلك القناعات القاضية بأن الدماغ هو الأصل في الأحاسيس والذاكرة حتى بدأت الحقائق تتكشف لتعلن عن ثورة عظيمة في طريقة تحليلنا والقناعات التي نعيشها والتي تحيط بنا.
التفاصيل العلمية
كان ذلك محض صدفة تتعلق بتقنية استحدثها الطب الحديث وهي استبدال قلب رجل ميت يعطى لرجل حي يعاني من ضعف في قلبه، فيتبرع الميت قبل موته بأن يعطى قلبه بعد موته لرجل آخر محتاج لهذا القلب، فقامت عدة عمليات جراحية لاستبدال قلوب أنا يعانون من مرض أو ضعف قلبي ليعطون قلوب أناس قدج ماتوا ولكن قلوبهم كانت قوية، وكانت تلك العمليات في حينها في السبعينات والثمانينات تعتبر ثورة في عالم الطب الجراحي وقد تمت بنجاح باهر ولكلا الجنسين.
لكن الأمر بدأ بعد تلك المرحلة إذ لاحظ هؤلاء الذين اجريت لهم العمليات بأنهم قد بدأوا يتصرفون بشكل يختلف تماماً عما كانوا عليه قبل العملية وأن تصرفاتهم كانت تأتي من دافع داخلي قوي لم يكن موجوداً عندهم سابقاً بل أحياناً كانت تناقض تصرفاتهم قبل العملية بالكامل، وأن قناعاتهم اختلفت ونشاطاتهم تغيرت بشكل قوي جداً.
تكررت تلك الأعراض لجميع من اجريت لهم العمليات دون استثناء حتى بدأ الباحثون يراقبون الأمر ويحللونه بعد أن كان مجرد دعاوي يستمعون لها، وكان من أهم ما جلب انتباههم أن المعننين كانت تحكمهم أحاسيس وذكريات جديدة لم تكن لديهم قبل العملية، وعندما تحروا عن سلوك الواهبين تبين أن سلوك المرضى بعد العملية تميل شيئاً فشيئاً لتحاكي سلوك واهبيهم وكأن الواهبين يستمرون في الحياة في أجساد من وهبوا إليهم قلوبهم.
هذا ما دفع العلماء لأن يعتقدوا جازمين أن السبب هو ذلك القلب الجديد الذي دخل في الجسم ليغير كل شيء بعد أن كانوا يعتقدون أن القلب مجرد مضخة تضخ الدم للجسم ليصل للدماغ المسؤول عن كافة الفعاليات والنشاطات الذهنية والأوامر والتي يعطيها لمختلف أجهزة الجسم. وإليكم بعض الأمثلة عن اختلاف سلوك المرضى الذين تلقوا قلوباً جديدة لتتطابق مع سلوك الواهبين:
كلير سيلفا : عبرت عن رغبتها في تناول الجعة مجيبة الصحافي الذي سألها عن شعورها مباشرة بعد خضوعها لعملية زرع القلب، "كلير" أصبحت بعد هذه العملية تحب أكل الدجاج وكثيراً ما ترى في حلمها شاباً يدعى "تيم"، الغرابة في كل هذا هي أن "كلير" لم تتناول الجعة يوماً وتكره أكل الدجاج وحين سألت بعد أحلامها المتكررة عن الشاب الذي وهب لها قلبه أجابوها أنه يدعى تيم . جامي شرمان : كانت تكره العنف وحتى حين كان زوجها يشاهد مباريات كرة القدم كانت تغادر الغرفة ؛ الآن أصبحت "جامي" تتابع مشاهد العنف بفضل قلب واهبها الذي كان ملاكماً . جيم كلارك : اشتغل في الفحم ثم أصبح سائق شاحنة بعد ذلك، مستواه الدراسي جد متواضع لكنه أصبح ينظم الشعر ويسمع زوجته كلاماً عاطفياً على درجة كبيرة من البلاغة لم تسمعه من قبل، هذه المرة أيضاً بسبب الواهب الذي كان رجلاً مثقفاً وشاعراً دانيال: انقلبت حالته الصحية رأساً على عقب وأصبح يهوى تسلق الجبال ويمارس هوايات لم يكن يفكر بمزاولتها بسبب حالته الصحية التي كانت سيئة جداً، أثناء زيارته لأم الواهب أخبرته أن ابنها "كاي" كان قوي البنية ويمارس العديد من الرياضات بما فيها تسلق الجبال. وهكذا بدأت البحوث على الناس من أجل معرفة هل للقلب استقلالية في التذكر والاستجابة السلوكية والعاطفية عن الدماغ أم أنه تبعاً له يأخذ ردات فعله من أوامر الدماغ!؟. فجاءت النتائج مذهلة لجميع الأوساط العلمية.
لقد تبين ان القلب مستقل تماماً في طريقة تفكيره وإحساسه بالأشياء بل وإنه أحياناً ما يؤثر على الدماغ ويجعله يتخذ قرارات تبعاً لأوامره أي أنه هو القائد وليس التابع.
لقد جاءت النتائج لتعلن أن ما توصلوا له يوضح ان الذاكرة لا تقتصر على الدماغ حسب بل أنها تتوزع على الجسم وأن للقلب الحصة الكبرى منها، فلقد تم إجراء بحوث على عدد كبير من الناس لمعرفة علاقة ومدى استجابة القلب والدماغ كل على انفراد لما يرى الإنسان من حوله ويسمع. فتبين أن القلب أسرع تأثراً من الدماغ وأن الإشارات الكهربائية التي يرسلها القلب أقوى من تلك التي يرسلها الدماغ بـ 100 ضعف وانهما يتبادلان التأثير الكهرطيسي بينهما وأن القلب يرسل للدماغ إشارات تجعله يتخذ قراراً ما ليرسل أوامره للجسم باتخاذ سلوك ما.
فعندما عرضت صور على المتبرعين للاختبار من مختلف التأثيرات العاطفية كمناظر الذعر والموت والقتل والصداقة والرومانسية جاءت استجابة القلب أسرع من الدماغ بكثير وأن الدماغ يأخذ قناعاته من تلك الإشارات التي يرسلها له القلب والمتعلقة بردة فعله على تلك المناظر، فصعق العلماء لذلك لأن هذا يعني ببساطة تغييراً جذرياً لما كان سائداً من الاعتقاد بأن العقل هو رأس كل سلوك وذاكرة وعاطفة وتصرف وقناعة.
وبعد استمرار التجارب تبين لهم ان القلب يتأثر بالبيئة ويفكر ويرسل للدماغ رسائله ليحللها ويأمر الجسم بتطبيقها، أي أن القلب مع الدماغ يمثلان الجهاز التشريعي بينما بقية الأعضاء تمثل الجهاز التنفيذي.
يقول أحد الباحثين أنه لو كنا قد توصلنا إلى كل تلك الإنجازات العلمية باستخدام الدماغ لوحده دون القلب فعلينا إعادة النظر بتفكيرنا بكل ما حولنا باستخدام القلب الذي له نمط تفكير مختلف تماماً عن طريقة التفكير التقليدية للدماغ.
عندما تنقل قلباً، يمكن أن يسترجع المتلقي الذي خضع للعملية بعضاً من ذكريات الواهب وحسب البروفسور "بول بيرسال" تتغير نفسية المتلقي بنسبة 5 إلى 10%. وتخلص العديد من التحاليل الطبية التي أوردتها بحوث كثيرة في هذا المجال إلى أن القلب "دماغ صغير" هو أيضاً يضم عدة خلايا عصبية تمتلك ذاكرة قصيرة وطويلة الأمد، كما أنه يرسل معلومات إلى الدماغ أكثر مما يرسلها إليه هذا الأخير(1).
السبق القرآني والنبوي
وهكذا بعد أن مجد الطب الحديث الدماغ كثيراً واعتبره مركز الأحاسيس والأفكار، تبين أن الأمر ليس كذلك وأن القلب له أثر كبير جداً في معتقداتنا وسلوكنا واهتماماتنا ونشاطاتنا اليومية، فهو حسب بحوث ومراقبات مجموعة من الكوادر العلمية والطبية يكسر الدور الحصري للدماغ في معالجة المعلومة؛ وهذا ما أثبتته شهادات من أجروا عمليات زراعة القلب وما تم تثبيته في بحوث لاحقة، وقد يكشف لنا العلم في قوابل الأيام حقائق علمية تقلب قناعتنا رأساً على عقب لتصل إلى تلك الحقيقة القرآنية المدوية بأن القلب هو مركز الأحاسيس والقناعات تماماً كما صورت لنا العديد من الآيات ذلك بشكل صريح لا لبس فيه.
تدبر أخي الكريم ما جاء في ذلك في آيات عدة في كتاب الله تعالى:
القلب مركز التدبر (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) (الحج:46) (وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ) (الاحقاف:26) (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ) (الأعراف:179) (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) (محمد:24) الأحاسيس والقناعات والسلوك مركزها القلوب (سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ) (آل عمران:151) (تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ) (الأعراف:101) (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ) (لأنفال:12) (لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ) (التوبة:117) (ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ) (يونس:74) (كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ) (الحجر:12) (كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ) (الشعراء:200) (كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) (الروم:59) (وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) (الزمر:45) (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً) (الفتح:4) (ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْأِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ) (الحديد:27) (قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ) (النازعـات:8). (كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (المطففين:14). لو تدبرنا الآيات الكريمات أعلاه فإننا نؤشر لتقديم حاسة السمع على حاسة البصر وهو ما أثبته العلم الحديث من حقيقة أن الإنسان يملك سمعه في بطن امه بينما لا يتمكن من الإبصار إلا بعد عدة أسابيع من ولادته. وها هو العلم يثبت كذلك أن الأفئدة أو القلوب هي مستودعات للسلوك والمشاعر والأحاسيس بل وحتى التفكير.
يقول تعالى : (مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ) (الأحزاب:4). والمعنى: يقول تعالى موطئا قبل المقصود المعنوي أمرا معروفا حسيا وهو أنه كما لا يكون للشخص الواحد قلبان في جوفه ولاتصير زوجته التي يظاهر منها بقوله أنت علي كظهر أمي أما له كذلك لا يصير الدعي ولدا للرجل إذا تبناه فدعاه ابنا له فقال { ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه وما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن أمهاتكم } كقوله عز وجل { ما هن أمهاتهم إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم } الاية وقوله تعالى : { وما جعل أدعياءكم أبناءكم } هذا هو المقصود بالنفي فإنها نزلت في شأن زيد بن حارثة رضي الله عنه مولى النبي صلى الله عليه وسلم كان النبي صلى الله عليه وسلم قد تبناه قبل النبوة فكان يقال له زيد بن محمد فأراد الله تعالى أن يقطع هذا الإلحاق وهذه النسبة بقوله تعالى : { وما جعل أدعياءكم أبناءكم } كما قال تعالى في أثناء السورة { ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين وكان الله بكل شيء عليما } وقال ههنا { ذلكم قولكم بأفواهكم } يعني تبنيكم لهم قول لا يقتضي أن يكون ابنا حقيقيا فإنه مخلوق من صلب رجل آخر فما يمكن أن يكون أبوان كما لا يمكن أن يكون للبشر الواحد قلبان { والله يقول الحق وهو يهدي السبيل } قال سعيد بن جبير { يقول الحق } أي العدل وقال قتادة { وهو يهدي السبيل } أي الصراط المستقيم. وقد ذكر غير واحد أن هذه الاية نزلت في رجل من قريش كان يقال له ذو القلبين وأنه كان يزعم أن له قلبين كل منهما بعقل وافر فأنزل الله تعالى هذه الاية ردا عليه هكذا روى العوفي عن ابن عباس وقاله مجاهد وعكرمة والحسن وقتادة واختاره ابن جرير. وقال الإمام أحمد عن ابن أبي ظبيان قال : إن أباه حدثه قال : قلت لابن عباس : أرأيت قول الله تعالى : { ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه } ما عنى بذلك ؟ قال : قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما يصلي فخطر خطرة فقال المنافقون الذين يصلون معه : ألا ترون له قلبين : قلبا معكم وقلبا معهم فأنزل الله تعالى : { ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه } وهكذا رواه الترمذي عن عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي عن صاعد الحراني عن عبد بن حميد وعن أحمد بن يونس كلاهما عن زهير وهو ابن معاوية به ثم قال : وهذا حديث حسن وكذا رواه ابن جرير وابن حاتم من حديث زهير به(2).
والمعنى كما يراه البيضاوي رحمه الله تعالى أي ما جمع قلبين في جوف لأن القلب معدن الروح الحيواني المتعلق بالنفس الإنساني أولا ومنع القوى بأسرها وذلك يمنع التعدد { وما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن أمهاتكم وما جعل أدعياءكم أبناءكم } وما جمع الزوجية والأمومة في امرأة ولا الدعوة والبنوة في رجل والمراد بذلك رد ما كانت العرب تزعم من أ اللبيب الأريب له قلبان(3).
يقول القرطبي رحمه الله عن معنى الآية الكريمة، فيه خمس مسائل :
الأولى- قال مجاهد : نزلت في رجل من قريش كان يدعى ذا القلبين من دهائه وكان يقول : إن لي في جوفي قلبين أعقل بكل واحد منهم أفضل من عقل محمد قال : وكان من فهر الواحدي و القشيري وغيرهما : نزلت في جميل بن معمر الفهري وكان رجلا حافظا لما يسمع فقال قريش : ما يحفظ هذه الأشياء إلا وله قلبان وكان يقول : لي قلبان أعقل بهما أفضل من عقل محمد فلما هزم المشركون يوم بدر ومعهم جميل بن معمر رآه أبو سفيان في العير وهو معلق إحدى نعليه في يده والأخرى في رجله فقال أبو سفيان ما حال الناس ؟ قال انهزموا قال : فما بال إحدى نعليك في يدك والأخرى في رجلك ؟ قال : ما شعرت إلا أنهما في رجلي فعرفوا يومئذ أنه لو كان له قلبان لما نسى نعله في يده وقال السهلي : كان جميل بن معمر الجمحي وهو ابن معمر بن حبيب بن وهب بن حذافة بن جمح واسم جمح : تيم وكان يدعى ذا القلبين فنزلت فيه. كذا قالوا جميل بن معمر وقال الزمخشري : جميل بن أسد الفهري وقال ابن عباس : سببها أن بعض المنافقين قال : إن محمدا له قلبان لأنه بما كان في شيء فنزع في غيره نزعة ثم عاد إلى شأنه الأول فقالوا ذلك عنه فأكذبهم الله عز وجل وقيل : نزلت في عبد الله بن خطل وقال الزهري و ابن حيان : نزل ذلك تمثيلا في زيد بن حارثة لما تبناه النبي صلى الله عليه وسلم فالمعنى : كما لا يكون لرجل قلبان كذلك لا يكون ولد واحد لرجلين قال النحاس : وهذا قول ضعيف لا يصح في اللغة وهو من منقطعات الزهري رواه معمر عنه وقيل : هو مثل ضرب للمظاهر أي كما لا يكون للرجل قلبان كذلك لا تكون امرأة المظاهر أمه حتى تكون له أمان وقيل : كان الواحد من المنافقين يقول : لي قلب يأمرني بكذا وقلب يأمرني بكذا فالمنافق ذو قلبين فالمقصود رد النفاق وقيل : لا يجتمع الكفر والإيمان بالله تعالى في قلب كما لا يجتمع قلبان في جوف فالمعنى : لا يجتمع اعتقادان متغايران في قلب ويظهر من الآية بجملتها نفي أشياء كانت العرب تعتقدها في ذلك الوقت وإعلام بحقيقة الأمر والله أعلم. الثانية- القلب بضعة صغيرة على هيئة الصنوبرة خلقها الله تعالى في الآدمي وجعلها محلا للعلم فيحصي به العبد من العلوم ما لا يسمع في أسفار يكتبه الله تعالى فيه بالخط الإلهي ويضبطه فيه بالحفظ بالرباني حتى يحصيه ولا ينسى منه شيئا وهو بين لمتين لمة من الملك ولمة من الشيطان كما قال صلى الله عليه وسلم خرجه الترمذي وقد مضى في البقرة وهو محل الخطرات والوساوس ومكان الكفر والإيمان وموضع الإصرار والإنابة ومجرى الانزعاج والطمأنينة والمعنى في الآية : أنه لا يجتمع في القلب الكفر والإيمان والهدى والضلال والإنابة والإصرار وهذا نفي لكل ما توهمه أحد في ذلك من حقيقة أو مجاز والله أعلم الثالثة- أعلم الله عز وجل في هذه الآية أنه لا أحد بقلبين ويكون في هذا طعن على المنافقين الذين تقدم ذكرهم أي إنما هو قلب واحد فإما فيه إيمان وإما فيه كفر لأن درجة النفاق كأنها متوسطة فنفاها الله تعالى وبين أنه قلب واحد وعلى هذا النحر يستشهد الإنسان بهذه الآية متى نسي شيئا أو وهم يقول على جهة الاعتذار : ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه الرابعة- قوله تعالى : { وما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن أمهاتكم } يعني قول الرجل لامرأته : أنت علي كظهر أمي وذلك مذكور في سورة المجادلة على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى الخامسة- قوله تعالى : { وما جعل أدعياءكم أبناءكم } أجمع أهل التفسير على أن هذه نزل في زيد بن حارثة(4). ولقد بين النبي عليه الصلاة والسلام حقيقة أن القلب هو أصل الأحاسيس والمشاعر والقناعات والإيمان والتقوى وأنه لو صلح صلحت كل فعاليات الجسم تبعاً لذلك والعكس صحيح، وهو خلاصة معاني الأحاديث الشريفة الصحيحة التالية:
عن النعمان بن بشير قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ( الحلال بين والحرام بين وبينهما مشبهات لا يعلمها كثير من الناس فمن اتقى المشبها استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات كراع يرعى حول الحمى أوشك أن يواقعه ألا وإن لكل ملك حمى ألا وإن حمى الله في أرضه محارمه ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب )(5). ولقد أجمع العلماء على عظم موقع هذا الحديث وكثرة فوائده وأنه أحد الأحاديث التي عليها مدار الإسلام، فقال جماعة هو ثلث الإسلام وإن الإسلام يدور عليه وعلى حديث الأعمال بالنية وحديث من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه. وقال أبو داود السجستاني يدور على أربعة أحاديث هذه الثلاثة وحديث لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه وقيل حديث ازهد في الدنيا يحبك الله وازهد فيما في أيدي الناس يحبك الناس. وقال العلماء: وسبب عظم موقعه أنه صلى الله عليه وسلم نبه فيه على إصلاح المطعم والمشرب والملبس وغيرها وأنه ينبغي أن يكون حلالا وأرشد إلى معرفة الحلال وأنه ينبغي ترك المشتبهات فإنه سبب لحماية دينه وعرضه وحذر من مواقعة الشبهات وأوضح ذلك بضرب المثل بالحمى ثم بين أهم الأمور وهو مراعاة القلب، فقال صلى الله عليه وسلم ( ألا وإن في الجسد مضغة الخ ) فبين صلى الله عليه وسلم أن بصلاح القلب يصلح باقي الجسد وبفساده يفسد باقيه(6). وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لا تناجشوا ولا تباغضوا ولا تدابروا ولا تحاسدوا ولا يبع بعضكم على بيع بعض وكونوا عباد الله إخوانا المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يحقره ولا يخذله كل المسلم على المسلم حرام دمه قال إسماعيل في حديثه وماله وعرضه التقوى ها هنا التقوى ها هنا يشير إلى صدره ثلاثا حسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم(7). وعن عائشة قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم فيعدل ويقول " اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك " [ قال أبو داود ] يعني القلب(8). وقوله صلى الله عليه وسلم ( فيما تملك ) هي المحبة بالقلب(9). كما بينت البحوث الحديثة التي أشرنا إليها في بداية البحث ان القلب يلتقط ما يدخل على جوف صاحبه من صور وأصوات ليتأثر قبل الدماغ بل ويرسل إليه إشارات كهربائية تتعلق بما وصله من معلومة ليحللها ويأمر الجسم ليتصرف أزاءها فينتج عن منظر الموت ذعراً ومنظر البهجة سروراً ومنظر الغريزة تهيجاً وهكذا.
ولقد عني الإسلام بكل ما يدخل في جوف الإنسان من صور وأصوات تؤثر في قناعاته وسلوكه كما يتبين في آيات كتاب الله العزيز وأحاديث المصطفى عليه الصلاة والسلام حول هذا الأمر العظيم والخطير على الفرد والمجتمع. واهتم الإسلام بموضوع الأذن وما يدخل فيها من أصوات والعين وما تلتقطه من صور، فأمر أن يحذر الإنسان مما يسمع وما يرى لأن ما يدخل أذنه وعينيه يصيب قلبه وعقله والعقل أناء الحواس وكل ما يسكب فيه ينعكس على الإنسان تصرفاً وعملاً وكلاماً.
ولا أحسب أحدا فصّل في هذا من السابقين خيرا من فيلسوف الإسلام الإمام أبو حامد محمد الغزالي (رحمه الله تعالى) في موسوعته الجامعة (إحياء علوم الدين) وكتبه الأخرى التي فصّل فيها وأبدع في مواضيع شتى ومنها تأثير الحواس وخصوصاً السمع على تصرفات المسلم. ومن اللاحقين كتب الكثيرين ومنهم الأستاذ الشيخ جوهري طنطاوي والأستاذ سعيد حوى رحمهما الله.
وقد كانت تحذيرات رسول الله صلى الله عليه وسلم تأتي في الأحاديث الشريفة حول النهي عن رؤية ما حرم الله أو الاستماع إلى ما لا يليق من كلام بذيء ونميمة وبهتان وكل ما يشين الإنسان، بل أن الله تعالى أمرنا أمراً واضحاً أنه لو سمعنا كلاما واضحا فيه من الكفر والإلحاد فإنه يجب علينا أن لا نجلس في هذا المجلس حتى يخاض في حديث غيره لأنه تعالى يعلمنا كيف نزكّي أنفسنا بتطهير حواسنا من كل ما يشينها كي لا تؤثر على تصرفاتنا.
فهلا عقلنا بقلوبنا وجعلناها تتلمس حقيقة أن العلم الحديث بمراقباته وبحوثه وتجاربه اليقينية التي لا تقبل اللبس يتسلق إلى حقائق القرآن التي نزلت قبل أكثر من أربعة عشر قرناً على قلب نبي أمي في صحراء قاحلة، فهل هناك بعد تلك الإعجازات من شك في حقيقة القرآن وما جاء به ومن أنزل عليه!!(10).
| |
|