مقولة نزار قباني
لا يمكن أن يكشف وجه الثورة الجزائرية
إلا من رأى إنسانا جزائريا
ولا يمكن أن يعرف طبيعة الثورة
إلا من تكلم او دخل حوارا مع جزائري او جزائرية..
..إن كل محاولة لفهم الثورة الجزائرية من بعيد
تبقى محاولة نظرية أو ذهنية كبعض أشكال
الرسم التجريدي* أو بعض أشكال الحب العذري
وأنا لم أخرج من مرحلة الحب العذري الجزائري
إلا في نيسان الماضي حين وطات
قدماي للمرة الأولى أرض الجزائر..
..صحيح ان الجزائر كانت قصيدة مرسومة
باأكواريوم في مخيلتنا*وكانت ثورتها لؤلؤة تتوهج
في قلب كل مثقف عربي*وبين أصابعه*ولكن
كل ما كتبناه عن (ليلى الجزائرية) كان على
عدوبته وبراءته وصدقه شبيها بما كتبه جميل
بثينة في لحظة من لحظات العشق الكبير..
..ومع إحترامي للعشاق العذريين*ولدموعهم
وصباباتهم*وأشواقهم أحسست بعد أن رأيت
الجزائر*أنها أكبر من جميع عشاقها* وأعظم
من جميع ما كتب عنها..ولا أدري لماذا شعرت
وأنا أقف على شرفة غرفتي في الفندق
*والميناء تحتي مهرجان من الضوء والماء
والجواهر*برغبة طاغية في البكاء*أو الإعتذارمن
’’ حي القصبة’’ بأزقته الضيقة وسلالمه الحجرية
ومنازله الخشبية التي تخبئ البطولات
فيها*كما يختبئ الكحل في العين السوداء.
اه . . كم هو جميل وجه الجزائر..
إنك لا ترى عليه أية علامة من علامات
الشيخوخة*أو أي تجعيدة تشعرك بأن الزمن مر
على الوجه الذي لا يزال محتفظا بطفولته حتى
الأن..
..وفي حين دخلت أكثر الثورات العربية - بعد أن
حكمت - مستودع الموظفين وأصبحت عضوا في
نادي المتقاعدين*نرى أن الثورة الجزائرية لا
تزال تمارس رياضة الركض*والقفز*وسباحة
المسافات الطويلة بعد زمن طويل من إنطلاق
رصاصة التحرير الاولى في نوفمبر 1954 ولا تزال
الثورة الجزائرية تتفجر عافية وطموحا وشبابا..
... ومن أروع ما شاهدته في الجزائر أن كل
جزائري تقابله*يشعرك بأنه هو الثورة*فهي
موجودة في نبرات صوته* وبريق عينه*وحركات
يده*وكبريائه وعنفوانه* وطبيعته
المتفجرة*وطقسه الذي لا يعرف الإعتدال..
في كل مكان دخلت إليه في الجزائر *وجدت
الثورة تنتظرني*في رئاسة الجمهورية*في
الإدارات العامة*في مبنى التلفزيون والإذاعة*في
الريف *في بيوت الفلاحين النموذجية*في
مصتوصفات الطب المجاني*في المجمعات
السياحية*في جامعة قسنطينة المدهشة*في
الصحافة*في حركة التعريب الرائعة*في الأدب
الجديدالواعد*في في طموح اللغة
العربيةالمجنون لتعويض ما خسرته خلال 132
سنة من القمع والحصار ومحاولات التصفية..
ولن أنسى أبدا ليلة أمسيتي الشعرية الاولى
في قاعة ’’ كابري’’ في الجزائر العاصمة*حيث
وصلت الساعة السادسة لاجد القاعة تكاد ان
تنفجر بمن فيها*وأن الأكسجين قد استهلك
تماما..
وكان من المستحيل علي أن أصل إلى المنبر *
والإخوة الجزائريين أخدوا حتى الكرسيي الدي
كان مخصصا لجلوسي..
وطبعا لم أتمكن من الدخول*وتقرر تأجيل
الأمسية الشعرية حتى يتم إختيار مكان أوسع
يكفي لجلوس ألاف الجزائريين جاءو لسماعي
شاعر عربي..
وعندما رجعت إلى فندقي سألت نفسي*ونهر
من دموع الفرح والكبرياء يتدفق عني: يا ترى لو
جاء ’’اراغون’’ أو ’’ بول ايلوار’’ أو ’’ بول فاليري’’
لقراءة الشعر في قاعة كابري فهل كان
الأكسجين سينتهي من القاعة؟ وهل كان
الجزائريون سيأخذون كرسيه كما فعلوا معي؟
..إن زيارتي للجزائر وضعت نهاية للكدبة الكبرى
التي تقول : إن اللغة العربية مواطنة في الدرجة
الثانية في الجزائر*وإن الشاعر العربي فيها
غريب الوجه والفم واللسان..
من قال هدا الكلام؟؟
إ، الجزائر التي دخلتها كانت وجها عربيا تضيء
فيه مادن دمشق وبغداد ومكة * وتعبق منه
مروءات قريش..
وأرجوا ان تسامحوا غروري*إدا قلت إنني لو
رشحت نفسي في أي إنتخبات شعرية في
الجزائر لنجحت انا وسقط ’’ أراغون’’
عربيا لا يحتاج المرء إلى منظار مكبر ليكشف أن
الثورة الجزائرية هي الإمتداد الطبيعي لكل
الثورات العربية الاخرى * أو أن هده الثورات هي
إمتدادها..
و الثورة الجزائرية حين تعبر عن إنتمائها العربي*
لا تعبر عن دلك بشكل استعراضي*أو
برومانسية مر عليها الزمن وإنما تضع ثقلها
المادي والدولي والإقتصادي والحربي في كل
معارك العرب..
..وفي كل الحروب العربية - الإسرائيلية* كانت
الجزائر معنا تجهيزا وتمويلا وفي كل مؤتمرات
القمة العربية* كانت الجزائر مع استمرار الثورة
المسلحة*وضد أنصاف الحلول* وأنصاف
الخيارات*وانصاف المواقف..
...وهكدا نرى أن الثورة الجزائرية بعد عشرات
السنين من النضال لا تزال في داخل الثورة*ولا
يزال كل جزائري مستنفرا و واقفا على خط
النار* وحاملا بارودته على كتفه *تماما كما كان
في نوفمبر 1954 فتحية للوطن الجزائري
العظيم وتحية للثورة التي لا تأخد إجازة