مفكرة الاسلام: كانت الصدمة الشديدة والصفعة القوية التي نالتها القبائل العربية المتنصرة والمتحالفة مع الفرس ذات أثر شديد وبالغ على نفوس وقلوب زعماء هذه القبائل وخاصة بعد مقتل زهرة شبابهم في معركة الولجة بسيوف المسلمين، فاجتمعت أعداد ضخمة من هذه القبائل عند منطقة «أليس» وطلبت مساعدة الفرس في حربهم ضد المسلمين، فأمر كسرى قائده «بهمن جاذويه» بالانضمام للعرب النصارى في القتال، ثم غير كسرى رأيه واستدعى بهمن جاذويه للمدائن وأصبحت الجيوش الفارسية تحت إمرة قائد آخر هو «جابان» وكان رجلاً محنكًا ولكنه ضعيف الشخصية.
كان الجيش «المجوصليبي» كبير العدد جدًا يفوق المائة والخمسين ألفًا، مما جعل الغرور يملأ القلوب والنفوس في حين أن جيش المسلمين ثمانية عشر ألفًا، ومن شدة الثقة المفرطة من النصر جلس العرب المتنصرة لتناول طعام الغداء غير عابئين باقتراب جيش المسلمين منهم، وبالفعل وصل المسلمون لأرض المعركة فوجد الأعداء على موائد الطعام، فأمر القائد الفارسي «جابان» بالتهيؤ لقتال المسلمين ولكن الغرور والكبر منعهم من الاستماع لصوت العقل وظنوا أنهم لا يغلبون واستمروا في تناول الطعام، فعاد «جابان» وقال لهم: ضعوا السم في الطعام فإن دارت الدائرة عليهم وغنم المسلمون الطعام وأكلوه ماتوا من السم وهو رأي لا يصدر إلا من رجل داهية، ولكنهم خالفوه أيضًا وبخلوا حتى بطعامهم.
أدرك خالد أن الغرور والكبر يملأ صدور العدو، فأمر المسلمين بالهجوم فورًا وبكل قوة وعنف على هؤلاء المغرورين، واشتعل القتال وأخذ ينتقل من طور لآخر، ومن حال إلى آخر أشد منه بسبب الحقد الصليبي عند العرب الموتورين بقتلاهم في «الولجة»، وصبر الفرس أيضًا في القتال على أمل وصول الإمدادات من كسرى، ولقي المسلمون حربًا عنيفة لدرجة أن القائد خالد بن الوليد دعا ربه عز وجل ونذر له فقال: «اللهم إن لك عليَّ إن منحتنا أكتافهم ألا أستبقي منهم أحدًا قدرنا عليه حتى أجري نهرهم بدمائهم».
ظل القتال يشتد وأخذت حمية المسلمين في الازدياد وخاصة مسلمي قبيلة «بكر بن وائل» الذين كانوا أشد الناس على نصارى قبيلتهم، وأخذت بوادر النصر تلوح لصالح المسلمين وأخذ الفرس في الفرار من أرض القتال، وفي النهاية انتصر المسلمون انتصارًا باهرًا وأسروا سبعين ألفًا، فأمر خالد بأخذهم جميعًا عند نهر «أليس» وسد عنه الماء ومكث يومًا وليلة يضرب أعناق الأسرى حتى يجري النهر بدمائهم وفاء بنذره لله عز وجل، فقال له القعقاع بن عمرو: لو أنك قتلت أهل الأرض جميعًا لم تجر دماؤهم «لأن الدم سريع التجلط»، فأرسل الماء على الدماء يجري النهر بدمائهم، ففعل خالد ذلك وسمى النهر من يومها نهر الدم، وكانت هذه العقوبة الجزاء المناسب لغدر وخيانة القبائل العربية الموالية للفرس، فلقد دخلوا حربًا لم يكن لهم أن يدخلوها إلا بسبب عداوتهم وكرههم للإسلام.
وعندما وصلت الأخبار بالنصر للخليفة أبي بكر الصديق قال كلمته الشهيرة: «يا معشر قريش عدا أسدكم ـ يعني خالد بن الوليد ـ على الأسد ـ يعني كسرى الفرس ـ فغلبه على خراذيله ـ أي على فريسته ـ عجزت النساء أن ينشئن مثل خالد».