لحظة ذم الدنيا
اعلم أن الذم الوارد فى الكتاب والسنّة راجع إلى زمانها الذى هو الليل والنهار المتعاقبان إلى يوم القيامة ، فإن الله عز وجل جعلهما خلفة لمن أراد أن يذّكر أو أراد شُكوراً .
وورد فى الأثر : " إن هذا الليل والنهار خزانتان فانتظروا ماتصنعون فيهما " .
وقال مجاهد : " ما من يوم إلا يقول : ابن آدم : قد دخلت ، عليك اليوم ولن أرجع إليك بعد اليوم فانظر ماذا تعمل فى ، فإذا انقضى طوى، ثم يختم عليه فلا يفك حتى يكون الله هو الذى يقضيه يوم القيامة " .
وأنشد بعضهم :
إنما الدنيا إلى الجنة والنار طريقٌ والليالى متجرُ الإنسان والأيام سوقٌ فالوقت هـو رأس مال العبد ، وقد صح عن رسول الله r أنه قـال : " من قال : سبحان الله وبحمده غرست له نخلة فى الجنة ".
فانظر إلى مُضَيع الساعات كم يفوته من النخيل .
وكان أحد الصالحين إذا أثقل الناس فى الجلوس عنده يقول :"أما تريدون أن تقوموا ، إن ملك الشمس يجرها لا يفتر " .
وقال رجل لأحد العلماء:" قف أكلمك "قال :" أوقف الشمس " . وكذلك ليس ذم الدنيا راجعاً إلى مكان الدنيا وهو الأرض ، وما أودع فيها من جبال وبحار وأنهار ومعادن ، فإن ذلك كله من نعم الله على عباده ، لما لهم فيها من المنافع ، والاعتبار ، والاستدلال على وحدانية الصانع سبحانه، وقدرته وعظمته ، وإنما الذم راجع إلى أفعال بنى آدم الواقعة فى الدنيا ، لأن غالبها واقع على غير الوجه الذى تحمد عاقبته ، كما قال عز وجل : } اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأمْوَالِ والأولادَ{( الحديد : من الآية : 20 ) .
وانقسم بنو آدم فى الدنيا إلى قسمين :
أحدهما :من أنكر أن للعباد داراً بعد الدنيا للثواب، والعقاب ، هؤلاء هم الذين قال الله فيهم :} إَنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا وَرَضُواْ بِالْحَياةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّواْ بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ أُوْلَـئِكَ مَأْوَاهُمُ النُّارُ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ{( يونس: الآية : 7 -8 ) .
وهؤلاء همهم التمتع فى الدنيا واغتنام لذاتها قبل الموت كما قـال تعـالى :} وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأنعام وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ{(محمد : من الآية : 12 ) .
والقسم الثانى :من يقر بدار بعد الموت للثواب والعقاب ، وهم المنتسبون إلى المرسلين، وهم منقسمون إلى ثلاثة أقسام :ظالم لنفسه ومقتصد ، وسابق بالخيرات بإذن الله .
والظالم لنفسه : هم الأكثرون ، وأكثرهم واقف مع زهرة الدنيا وزينتها ، فأخذها من غير وجهها ، واستعملها فى غير وجهها ، وصارت الدنيا أكبر همّه ، بها يرضى ، وبها يغضب ، ولها يوالى ، وعليها يعادى ، وهؤلاء أهل اللعب واللهو والزينة ، وإن كانوا يؤمنون بالآخرة إيماناً مجملاً فهم لم يعرفوا المقصود من الدنيا ، ولا أنها منزلة يتزود فيها لما بعدها .
والمقصتد : من أخذ الدنيا من وجوهها المباحة، وأدى واجبها، وأمسك لنفسه الزائد على الواجب يتوسع به فى التمتع بشهوات الدنيا ، وهؤلاء لا عقاب عليهم فى ذلك إلا أنه ينقص درحاتهم كما قال عمر بن الخطاب t : لولا أن تنقص من حسناتى لخالفتكم فى لين عيشكم ولكن سمعت الله عيّر قوماً فقال :} أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا{( الأحقاف: من الآية : 20 ) .
وأما السابق بالخيرات بإذن الله : فهم الذين فهموا المراد من الدنيا وعملوا بمقتضى ذلك ، فعلموا أن الله إنما أسكن عبادة فى الدار ليبلوهم أيهم أحسن عملاً كما قال تعالى :} إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً {( الكهف: الآية : 7 ) .
يعنى :أزهد فى الدنيا وأرغب فى الآخرة ، ثم قال تعالى :} وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا{( الكهف: الآية : 8 ) .
فاكتفى السابقون منها بما يكفى المسافر من الزاد، كما قال النبى r: " مالى وللدنيا ، ما أنا فى الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها "(رواه الترمذى (9/223) الزهد وقال : حسن صحيح، والحاكم (4/301) الرقاق، وقال : صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبى، ورواه أحمد (1/391) وصححه الألبانى فى الصحيحة بشاهده رقم 439 ).) .
ووصى ابن عمر tr :" كن فى الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل " (تقدم تخريجه ص (23) .) .
ومتى نوى من تناول شهواته المباحة التقوى على طاعة الله كانت شهواته له طاعة يثاب عليها ، كما قال معاذ t : " إنى لأحتسب نومتى كما أحتسب قومتى " .
قال سعيد بن جبير:" متاع الغرور ما يلهيك عن طلب الآخرة، وما لم يلهك فليس بمتاع الغرور ولكن متاع بلاغ إلى ما هو خير منه " .
وقال يحيى بن معاذ :" كيف لا أحب دنيا قُدر لى فيها قوت أكتسب به حياة ، أدرك به طاعة ، أنال بها الجنة " .
وسُئل أبو صفوان الرعينى: ما هى الدنيا التى ذمها الله فى القرآن والتى ينبغى للعاقل أن يتجنبها ؟ ، فقال : " كل ما أصبت فى الدنيا تريد به الدنيا فهو مذموم، وكل ماأصبت منا تريد به الآخرة فليس منها " .
وقال الحسن:" نعمت الدار الدنيا كانت للمؤمن ، وذلك أنه عمل قليلاً وأخذ زاده منها للجنة ، وبئست الدار كانت للكافر والمنافق ، وذلك أنه ضيع لياليه وكان زاده منها إلى النار " .
قال عون بن عبد الله:" الدنيا والآخرة فى القلب ككفتى الميزان ما ترجح إحداهما تخف الأخرى ".