السلام عليكم
اولا
التعريف بصاحب القصة
أبو العيد دودو (1934 في العنصر، جيجل - 16 يناير 2004) كان قاص وناقد أدبي ومترجم، أستاذ جامعي، درس بمعهد عبد الحميد بن باديس ثم انتقل إلى جامع الزيتونة ومنه إلى دار المعلمين العليا ببغداد ثم إلى النمسا فتحصل من جامعتها على دكتوراه برسالة عن ابن نظيف الحموي سنة 1961م، درس بالجامعة التي تخرج منها ثم بجامعة كييل بألمانيا قبل أن يعود إلى الجزائر ويشتغل استاذا في قسم اللغة العربية وآدابها بكلية الآداب جامعة الجزائر.
من بين أبرز المثقفين في الجزائر الذين عملوا في صمت على إنتاج ثقافة نوعية. فقد كتب القصة والمسرحية والأسطورة والدراسة النقدية والدراسة المقارنة وقصيدة النثر كما مارس الترجمة إلى العربية من أكثر من لغة كما ترجم إلى الألمانية بعض قصصه وقصائد عدد كبير من الشعراء الجزائريين المعاصرين.
قصة ام السعيد لابي العيد دودو
: أم السعد
)
كانت أم السعيد إمرأة في العقد الخامس من عمرها , طويلة القامة , رقيقة العود , بيضاء البشرة , مرفوعة الرأس أ ذات نظرة لا تخلو من حدة , و ذلك إلى ضعف بصرها منذ الولادة فهي تفتح عينيها بشدة وتوتر جبينها وترفع حاجبيها كلما ركزت نظرها على شيء معين وقد خط الشيب شعرها, ولكنها لا تزال تحتفظ بالكثير من نشاطها وحيويتها .
نشأت أم السعد في قريتها , وبها عاشت وتزوجت دون أن تعرف غيرها . وكانت ا القرية واقعة على ضفة الوادي , تتخللها البساتين الجميلة ذات الأشجار المثقلة بيانع الفاكهة , ولذيذ الثمر , وطيب الزهر , المختلفة الحجم والنوع وعلى الجانب الآخر من الوادي يطل عليها تل مرتفع عن مستواها , يحتوي على كل ما تتمتع به بلادها من جمال طبيعي رائع خلاب , وكان بيتها يقع في قلب القرية تحف به أشجار التين والتفاح والبرتقال , وتظلل رحبته تعريشة كثيفة .
وكان ابن عمها قد دخل بها , وهي بعد لم تبلغ السادسة عشر من عمرها ولكنها كانت كاملة النضوج في وقت مبكر , وقد تجلى كل ذلك في حديثها وتصرفاتها المتزنة , فأحبها زوجها لخلقها وحسن سلوكها منتهى الحب وأسماه وتعلق معها أبلغ التعلق , ودأب على احترامها وتقديرها منذ بداية حياته الزوجية معها .
ولدت أم السعد عدة أولاد اختطف الموت أكثرهم في مرحلة الطفولة . ولم يبق لها منهم إلا ثلاثة أولاد , بنتان وولد , وكانت ابنتها الكبرى قد تزوجت من أحد أقاربها , كما بنا ابنها ببنت عمته , بينما بقيت ابنتها الصغرى حسيبة تعيش معها . وقد مات عنها زوجها , عندما بلغت الأربعين من عمرها في حادثة وقعت له في داره , قضت على حياته , حيث أنه أراد مرة أن يذبح ديكا عند زيارة ابنته له , بعد زواجها بشهر , فزلت السكين الحادة على عنق الديك , فحزت إبهامه وقطعت إحدى عروقه , فنزف دمه ومات على قارعة الطريق , قبل الوصول به الطبيب في المدينة ! فحزنت عليه حزنا بالغا , انفطر له قلبها وبكته بدموع مخلصة مما أثر في صحتها وأنحلها , وغير ملامحها ببعض الشيء .
منذ تلك الفاجعة التي ألمت بها , أخذت هي نفسها تعتني ببستانها ودارها وتقوم بجميع الأعمال التي كان يقوم بها زوجها . ولم تكن تقبل أن يساعدها أولادها في القيام بأمر البستان , والاعتناء بزهوره وأشجار فاكهته لأن أعمالهم كانت تتسم بالسرعة والابتسار . باستثناء كنتها , فإنها كانت تعينها على ذلك نظرا لمشاركتها لها في أغلب صفاتها ومزاياها . إلا أن ابنها لم يلبث أن انتقل بعائلته إلى المدينة .
وبذلك فقدت معينتها الوحيدة , غير أنها لم تأسف لذلك , إذ لم يكن من الصعب عليها أن تؤدي العمل وحدها . وكانت تشعر باعتزاز , كلما انتهت من القيام بعمل ما . فقد تعودت أن تراقب زوجها في حياته وهو يؤدي واجبه في البستان , فأعجب بمهارته , وتعلمت عنه حب الجمال والتنسيق والرعاية .
وكثيرا ما طلب منها ابنها أن تنتقل معه إلى المدينة أو على الأقل تأتي للإقامة عنده بضعة أشهر ولكنها ترفض في إصرار . فلم يكن في استطاعتها أن تحتمل البعد عن دارها يوما واحد فقد زادها عملها التصاقا بها وحبا وكانت تتصور أنها ستمرض أو تموت , إن هي تركت بستانها دون عناية ورعاية .
وفي ذلك الأثناء كان الهمس يدور في القرية عن قيام الثورة وما فتئ أن تحول إلى أحاديث واجتماعات وخطب واتصالات علنية .واتخذ الجبل معنى آخر لدى الأهالي ولم يعد مجرد قطعة أرض ناتئة تختلف علوا وارتفاعا وتستقبل أول أشعة الشرق الناعمة . بل أصبح أملا يعمر القلوب المضطهدة .
وفي غداة تلك الليلة المباركة التي كانت ميلاد يوم جديد , وعصر جديد وتحول جديد في حياة شعب بأكمله نهض الأهالي وعلى ألسنتهم أسئلة متباينة ما بين فرح مغتبط , وحزين متألم , ومستبشر أمل . هذا جذل لأنه سمع صدى الطلقات وذاك متحسرا لأنه كان يغط في نومه , ففاته أن يشهد مولد حياة , وذلك متطلع لأنه كان أحد أفراد الزمرة وآخر يريد أن يتحقق من أنه لم يكن حالما , وتعالت من كل جانب متى وأين وكيف كانت أصوات تلك الطلقات والانفجارات .
وساعدت الصدف أم السعد , فكانت ممن سمع وأصاخ في الظلام فقد رأت حلما مزعجا أبعد النوم عنها , رأت فيه ديكا أحمر يخرج لسان زوجها ويزدرده وهو يلعب بأجنحته في الهواء , ثم يتجه نحوها صائحا , ضاربا , متوثبا , فاستيقظت فزعة وجلست في فراشها تبسمل وتشهد وتقرأ الفاتحة . وحين انطلقت الانفجارات تشق الصمت , وتهتك أستار الظلام , قامت واتجهت إلى الباب وفتحته , فرأت النيران تشتعل في مكان , بدا لها غير بعيد جدا . وظلت تدور أمام الدار , وتنظر إلى كل جهة , يتناهى إلى سمعها منها صوت انفجار أو طلقة .
وعندما طلع النهار تركت أم السعد دارها مبكرة , وذهبت إلى الجيران فاجتمع حولها بعض الأهالي , رجالا ونساء وأطفالا , فأخذت تروي لهم أسباب ما رأته وسمعته في تلك الليلة الخالدة . وازداد اهتمام الناس بها فاقترن اسمها بالثورة ولم تكن تتعب من إعادة ذلك على كل من جاءها مستفسرا , فتردد ذلك فخورة مزهوة . في حياتها كلها لم تلاق مثل هذا الاهتمام , ولم تكن مرة مدار الحديث بمثل هذه الدرجة !
وكانت حسيبة وهي فتاة في السابعة عشرة , سمراء اللون , رشيقة الحركة ممتثلة الجسم قليلا , ذات ملامح تقرب إلى حدها من ملامح أمها , إلا أن أنفها أدق وأجمل , كانت ترافقها في كل تنقلاتها كظلها , فخورة هي نفسها بأمها , مغتبطة بها تحدث الناس وتفصل لهم ما أحملته أم السعد .
ولم تمض إلا أيام قليلة حتى أرسلت أم السعد في في طلب ابنها , ولكنه لم يعد لسبب من الأسباب . وانظم بعض رجال القرية وشبابها إلى الحركة فانتدبت أم السعد ابنتها حسيبة لمساعدتهم , فكانت تحمل لهم الأكل , والمؤونة إلى الجبال القريبة من القرية , فتقضي اليوم معهم , ثم تعود إلى أمها وكانت أم السعد تهيئ لها كل ذلك بذاتها , وتحرص على أن يكون حاضرا في حينه , لكيلا يجوع الأبناء.
وانقضت فترة أخرى , فكثرت المعارك وانتشرت الحركة , وعمت أطراف الناحية , وأصبح البعض يحمل في جسده أنبل جراح من أجل أنبل قضية , فقلت عودة حسيبة إلى أمها , وصارت تقضي معهم أغلب الأوقات متنقلة من جهة إلى أخرى , تواسي وتضمد وتغسل وتطعم , وبالتالي انقطعت عن الزيارة نهائيا .
واستمرت أم السعد في عملها , فكانت تعد المئونة وتهيئ الأكل وترسله مع بعض أطفال القرية
ولم تلبث أن أصبحت تستقبل أشخاصا لم يسبق أن رأتهم في حياتها . وكانت تصلها معهم أخبار أبنتها ورسائلها , فتفرح وتبتهج وتهتز لذلك . وكان فيهم الفتاة التي تركت مدرستها والشاب الذي هجر محراثه وأملاكه وكانت أم السعد تشعر بحب لهم من أول وهلة , وتطمئن نفسها إليهم وتجد لأحاديثهم حلاوة وظرافة ولطافة وإيمانا . أما رسائل أبنتها فكانت تتحدث عن أعمال رفاقها ورفيقاتها الجبارة , وخصائص حامل الرسائل أو حاملتها وعن نضالهم جميعا في سبيل الوطن .
ولم تكن أم السعد تدخر وسعا في إكرامهم والعطف عليهم , بل لم تكن ترى فرقا بينهم وبين أبنائها البتة فكانوا يدخلون ويخرجون متى أرادوا ذلك في الليل وفي النهار على حد سواء ويقيمون عندها فترات مختلفة . وكانت جد فرحة بهم , فخورة بكثرتهم وتشعر بألم كلما اختفى أحدهم وغاب عن دارها بعد أن ألفته و أحبت دخوله وخروجه ونومه ويقظته .
وجاءت أبنتها الكبرى برفقة طفليها , لتقيم معها , بعد أن التحق زوجها بالجبل. فبينما كانت هذه تقوم على خدمة الإخوة والأخوات تنظيف ثيابهم وتنزع عنها غبار الجبل والطريق , ورائحة الدخان والبارود , كانت أم السعد تعتني بأمر البستان , فتغرس وتسقي وتلقح وتجذب وتجمع الفاكهة حتى يجد أولادها طعامهم , عندما يقبلون بصورة مفاجئة على حد تعبيرها .
وإلى جنب ذلك كانت تحافظ على مظهر دارها داخليا وخارجيا لكي تصون الصورة التي تركها عليها زوجها , وكان قد بناها بساعديه القويين وتؤدي ما كان يؤديه من إصلاح وترميم , تماما كما كان يعمل هو , كأنه لا يزال حيا يرزق . فكانت تزوق وتبيض , والناس يعجبون من مهارتها وإتقانها .
وعصر أحد الأيام أطلت عليها فتاة في حوالي عشرين لم يحدث أن رأتها قبل ذلك , كانت بيضاء البشرة , معتدلة القامة , يتدلى شعرها الأسود فوق كتفيها , وتعتليها قبعة رمادية اللون , وقد ارتدت بذلة عسكرية , وكانت ترافقها فتاة أخرى ومجاهدان. وبعد أن أطعمتهم , بمهمات أخرى في حين بقيت الفتاة وحدها.
ولم تتعود أم السعد أن تسرع بالسؤال عن ابنتها حسيبة , ولذلك انتظرت أن تفاتحها الفتاة بشأنها .
ولكنها انطلقت تحدثها عن أشياء أخرى لا علاقة لها بابنتها , على عكس ما كان يفعله الآخرون معها . وبما أن اسم أم السعد كان مشهورا بين المجاهدين والمجاهدات في المنطقة كلها , فقد ظنت أن الفتاة ‘ما أن تكون جديدة في الحركة وإما أنها انتقلت إلى هنا من منطقة أخرى بعيدة .فقر رأيها أخيرا على أن تسألها .فوجهت الخطاب ‘ليها قائلة :
- لا , لست جديدة فيها يا أمي .
فتساءلت أم السعد في لهفة :
- إذن لا شك أنكي تعرفين ابنتي .. اسمها حسيبة .
- هل التحقت حديثا بالثورة ؟
فأجابت الفتاة , وهي تنظر إلى الطفل البالغ من العمر حوالي سنة ونصف :
فاعترى الفتاة نوع من الاضطراب , ومدت يدها تداعب صدر الطفل وتمازحه وهو جالس في حجر أمه , ينقل نظراته بينها وبين أخيه الذي كان يلعب على الأرض بحجارة صغيرة , وكان يكبه بسنتين تقريبا , وكأنها بذلك تحاول أن تخفي اضطرابها .
ثم قالت :
- أنا أيضا اسمي حسيبة نعم يا أمي .
وعادت أم السعد تسأل :
- وهل تعرفينها حقا ؟
فأطرقت الفتاة لحظة وعينها تلتمعان ببريق خافت , كما لو أنها تذكرت شيئا مؤلما , ثم رفعت رأسها وأجابت .
- طبعا .. كلنا نعرفها .. كلنا .
والتمعت عينا أم السعد وجحظتا , يشرق محياها إشراقه رائقة , وهي تقول متسائلة :
- وكيف حالها يابنتي ؟
فتناولت حسيبة الطفل من حضن أمه ورفعته بحيث اختفى وجهها خلفه وقبلته وقالت عقيبة ذلك مباشرة:
- في صحة جيدة .. على أحسن ما يرام
وظلت لحظة تحدث الطفل وهو ينظر إليها بعينيه الكبيرتين ضاحكا ونظرت أم السعد إلى ابنتها الكبرى. وقد خالجها الشك في صحة ما تقوله الفتاة , فانتفضت البنت :
- هل ماتت أختي .. استشهدت ؟
فتغلبت حسيبة على حيرتها . و أجابتها :
-أبدا .. إنها تسلم عليكم جميعا
ثم انطلقت تحدث أم السعد عن بطولة ابنتها حسيبة و تضحيتها براحتها في سبيل أخواتها , فسألتها أم السعد :
-و لما لا تزورني ؟ أني لم أرها منذ مدة .
-ستزورك عن قريب . فهي الآن تقوم بمهمات أخرى في مناطق بعيدة .. ومسحت حسيبة وجهها , و أغمضتها في تعب , فقالت أم السعد :
- يبدو عليك التعب يا ابنتي . ألا تريدين أن تستريحي قليلا ؟
فنظرت من جديد إلى الطفل , وكان يلعب بسير حذائها , وأجابت :
-لا أستطيع الآن .. إن أمامي أعمال أخرى ..
قالت البنت الكبرى
يحدثني قلبي انك تخفين عنا شيئا ؟
فسيطرت حسيبة عن عواطفها , وطردت عنها شبح التعب , وأضافت .. بنبرة واضحة :
-في مكان يبعد قليلا .
و استمرت تقول:
-لقد جرحت حسيبة .. ولكنه جرح لا أهمية له .وتساءلت ام السعد :
-ابنتي جرحت ..
-نعم . ولذلك لم أرد أن أزعجكم بهذا الخبر
و تجلدت أم ألسعد , وقالت :
وأين هي الآن ؟
-انها تعالج في احد مستشفياتنا ..
فهزت أم السعد رأسها :
-ولكن لم لا تكتب لي ؟ إنها ولا ريب ...
فقاطعتها حسيبة قائلة :
- نعم . إنها مريضة , وسوف تكتب إليك في القريب العاجل .وانحدرت دموع البنت الكبرى فالتفتت
إليها أمها و نهرتها بشدة . وقالت للمجاهدة بصوت هادئ .
-لا بد أن تزورني بعد خروجها ..ابنتي المجاهدة .
وابتسمت لها حسيبة :
-لا بد أن تزورك ..ذلك من حقك .
ثم قامت , وهي تقول على عجل :
-لا استطيع البقاء ..يجب الآن أن التحق ببقية إخواني . وسأزرك مرة أخرى يا أمي .. ربما غدا أو بعد غد ..
وعانقتها أم السعد , ثم قالت
-ابقي قليلا معنا يا ابنتي ..أن زيارتك لنا قصيرة جدا ..كأننا لم نرك
- في المرة القادمة مدة أطول ..
وعقب ذلك ودعت الجميع وذهبت . ومنذ ذلك الحين لم ترها أم السعد ولم تمر إلا أيام قليلة , حتى عادت تصلها الرسائل من ابنتها باستمرار مع بعض الإخوة و الأخوات , كانت تعرف الكثير منهم و يعرفونها , تحدث فيها تماثلها للشفاء و قرب زيارتها لها , فيداعب قلبها الأمل برؤيتها . وكانت تجمع تلك الرسائل . وتضعها في مكان لا يراه احد , ولا يعلم به, كأنها شيء ثمين , مع أنها لم تكن تستطيع قراءتها , فقد كانت ابنتها الكبرى تقوم بهذه المهنة نيابة عنها . ومن كانت تكتفي بالنظر فيها بين حين وآخر , وتقبل خطوطها السودا , ثم تعيدها إلى مكانها .وبلغت فرحتها , عندما علمت عن طريق الصدفة أن ابنتها من فدائي المدينة , وأن ابنتها ستزورها قبل نهاية الأسبوع من جهة أخرى , إن هؤلاء الذين يترددون على دارها بين وقت إلى آخر , ويقيمون عندها , هم أيضا أبناؤها ما في ذلك ريب ولكنها رغم هذا كله تشعر باعتزاز أكثر , وقت ما تفكر في ابنها وابنتها , فهما من لحمها ودمها من تربيتها وصنع يديها وكانت أم السعد منذ البداية مؤمنة بفكرة كونتها من نفسها واستخلصتها من مشاعرها الصادقة , وهي أن كل من خدم الثورة يمضي إلى جنة بغير حساب ومن أجل ذلك حرصت على أن يكون كل أبنائها في خدمتها.
وتوالت انتصارات المجاهدين واستطاعوا تحرير مناطق عريضة فجن جنون المستعمر , وراح يشعل النار في الغابات الشاسعة ويدمر القرى والأرياف ويزرع الموت والخراب في كل مكان . وفي صبيحة يوم الجمعة وهو اليوم الذي كان من المنتظر أن تزورها فيه ابنتها حسيبة , نهضت أم السعد على عادتها واستعدت تمام الاستعداد لاستقبالها والفرح بها مع إخوانها وأخواتها الذين سيرافقونها إليها ويحلون أكرم ضيوف عليها , فتصغي إلى أحاديثهم عن الهجوم والكمين والانتصار وتحضا بالعناية بهم.
وبينما هي في البستان تجمع بعض الخضار إذا بها تسمع أزيز الطائرات وصوت الانفجارات يدوي في القرى المجاورة رهيبا مفزعا . وكانت ابنتها الكبرى تساعدها في ذلك وطفلها الكبير يلعب أمامها ويحاول تسلق الأشجار وازداد اقتراب الطائرات , فتركت أم السعد ما بيدها وحدقت في ابنتها فزعة واجفة وقد برزت عيناها وساورها شعور طبيعي صادق , فصاحت :
- الطفل .. الطفل !
ثم أمرت ابنتها بأن تختفي مع الطفل الكبير تحت الأشجار الكثيفة , وجرت إلى الدار لتجلب الصبي الآخر , لأنه كان نائما بها . وحملته بين يديها وخرجت راكدة ولكنها سقطت وهي تحتضن الطفل النائم قبل أن تجتاز التعريشة وتتجه إلى البستان . فقد وقعت قنبلة فوق الدار فتطاير ترابا ورمادا ودخانا .
هكذا استشهدت أم السعد قبل أن ترى ابنتها ودون أن تعلم أن ابنتها قد سبقتها إلى ذلك قبل مدة وأن تلك الرسائل والزيارة المتوقعة كان مصدرها حسيبة الثانية .
نتمنى تعجبكم
الى اللقاء