سارة سوسو Admin
عدد المساهمات : 3024 17833 السٌّمعَة : 100 تاريخ التسجيل : 01/01/2011 العمر : 35
| موضوع: تصحيح المفاهيم في معنى الإيمان بالقضاء والقدر الخميس مارس 17, 2011 10:12 pm | |
|
الدكتور الفاضل محمد سعيد رمضان البوطي
حضارة الإسلام العدد 10
كنت قد عزمت أن أبدأ الكتابة في ((حضارة الإسلام))، – بعد انقطاعي الطويل عنها – بموضوع يتعلق بالحج: أمضي فيه مع القراء، برحلة إلى بيت الله الحرام، بالفكر والوجدان، بعد أن قعدت بي الأسباب عن الإرتحال إليه بالجسم والعيان. ولا غرو، فليس على من فاته الركب، وتخلَّف عن السرى، إلا أن يعلِّل النفس بالذكرى، ويمتع القلب بالحديث عن الديار.
تذكرت، والذكرى تهيج لذي الهوى
ومن حاجة المحزون أن يتذكرا
غير أنه صرفني عن الكتابة في هذا الموضوع، ما يصرف المسلم عن النوافل والمستحبات، إلى الفروض والواجبات، عند تعذر الجمع بينها، وضيق الوقت عن الإتساع لها كلها.
فقد التقيت بفئة من الشبان، أعرف فيهم صدق الإسلام وحسن العقيدة، شكوا إليَّ أن بحث القضاء والقدر من الله، والتسيير والتخيير في حياة الإنسان – يظل يؤرق تفكيرهم، ويتعب أفئدتهم، وأنهم يلتقون بين الحين والآخر بمن يحاول التشكيك في عقائدهم، بل ويتحداهم أن يكون ((لمشكلة))!.. القضاء والقدر حل تقبله العقول والأفكار.
والعجيب أن بعضاً من شياطين الإنس، لا يحلو لهم أن يتصيَّدوا إيمان المؤمنين، إلا بهذا الشباك القديم.. مع أنه شباك أخرق، لا يصلح إن يُمسك على أي صيد لأصحابه، اللهم إلا أن يمسك على أفكار قاصية عن حقيقة العقيدة الإسلامية وفهمها على وجهها الصحيح، فهي تذهب بذلك ضحية جهلها بحقيقة الدين وأصوله وحقائقه. أما الدين نفسه، فيظل على كل حال، في منعة عن أن ينال منه، ويظل العقل ساجداً لكل مبادئه وأحكامه.
وأنا أعلم أن القصة ليست قصة فئة بخصوصها من المسلمين، صادفت شبهة في فهم أمر من أمور الدين، وإنما القصة، قصة الغزو الفكري الذي يمعن في القصد إلى الحيلولة بين عقول المسلمين وحقائق إسلامهم، بما يمكن إثارته من دخان الشُبَه المفتعلة، وغبار الآراء والأفكار الوافدة.
ومسألة التسيير والتخيير، التي يتلاعب بالحديث عنها بعضهم، بقصد التضليل، دون فهم لحقيقتها – من أهم مسائل أصول الدين التي ينبغي أن يدركها كل مكلف على وجهها الصحيح الذي جاءت به شريعة الإسلام. ولذا فإنك لا تجد واحداً من علمائنا السالفين رضي الله عنهم، كتب في أبحاث العقيدة الإسلامية، إلا وتناول البحث في هذه المسألة بالإيضاح من جميع جهاتها وأطرافها. ومن عجيب الخطأ أن بعض الناس، ينكرون – مع هذا – على من يسأل في هذا البحث، قصداً إلى كشف غاشية اللبس لديه، ورغبة في تحصين عقيدته، على أن تنالها أباطيل الموسوسين والمشككين، ويخيفونهم من الخوض في ذلك، بما يروونه عن رسول الله أنه قال: "إذا ذكر القدر فأمسكوا"!!..[1] ومع أن هذا الحديث ضعيف لا يرقى إلى صحة الاستشهاد به لأمر كهذا، فإن مما ينبغي معرفته بالبداهة، أن قائل هذا، (سواء كان في حقيقته حديثاً أو أثراً عن بعض أهل العلم) إنما أراد بهذا القول، زجر الناس عن الخوض في دقائق القضاء والقدر، بسلاح الفلسفة والجدل البيزنطي الذي ابتلي به المسلمون – على غير رضى منهم – ردحاً من التاريخ الإسلامي. وهذا النهي حق. وهو ليس خاصاً بمسألة القضاء والقدر، بل عام يشمل غيرها أيضاً من قضايا العقيدة كالغوص في أبحاث ذات الله تعالى وحقيقة صفاته.
أما تعليم المسلمين حقائق عقيدتهم التي وضعها أمامهم، كل من كتاب الله وسنة رسوله، فما من ذلك بد، وليس لعالم أن يصرف عنها جاهلاً جاء يسعى ابتغاء معرفة دينه والتمكن في عقيدته.
من أجل هذا، طويت ما كنت بسبيله من الكتابة في موضوع الحج، واستبدلت، هذا البحث الذي هو أصل من أهم أصول العقيدة الإسلامية.
وسأمضي مع القارئ في معالجته وبيانه، بنفس المنهج الحواري الذي مضيت فيه مع الفتية الذين التقيت بهم. فهو أعون على تنسيق مراحل البحث، وأجمع لمظانِّ الشبهة في هذا الموضوع كما يحس به الذين يستشكلونه.
بدأ السائل حديثه فيما يستشكله، بقوله: هل الإنسان مخير فيما كلفه الله به أم مسير؟
فقلت: إن من تصرفات الإنسان، ما هو مخيَّر فيه، كالسعي إلى طعامه وشرابه، والقصد إلى أغراضه وحوائجه، من كل ما لا يفعله إلا بوحي من إرادته وعقله. ومنها ما هو مسيّر فيه، كحركة الإرتعاش، وكالوقوع والإنزلاق، وما يفعله مكرها، من كل ما يصدر منه بدون وحي من إرادته وعقله.
وفارق الإدارة هذا، فارق جلي بدهي في حياة الإنسان، لا يقبل أي جدل أو امتراء. كما أنها حقيقة أثبتها القرآن الكريم للإنسان بصريح العبارة التي لا تقبل أي تحريف أو تأويل، وذلك في مثل قوله تعالى: "وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا" وقوله: "وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ".
ومن أولى شروط صحة التكليف أن يكون المكلف مختاراً فيما يتعلق التكليف به. فلا يبدأ التكليف، إلا حيث يتوافر الإختيار، وينتهي حيث يصبح الإنسان مسيراً فاقداً لإرادته وطواعيته. وهذا القانون جلي صريح في قوله تعالى: "لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا" وفي قوله عليه الصلاة والسلام : "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه".
قال: فإذا كان كما تقول، فما معنى أن الله قدَّر وقضى على الإنسان كل ما يكسبه من خير وشر؟ وكيف يبقى للإنسان مع ذلك أي اختيار في فعل ما يريد؟.
قلت، ومن الذي انبأك أن معنى القضاء والقدر، سلب الإختيار من العبد، وأنه وثاق، قيد الله به الإنسان، حتى لا يملك معه طواعية ولا اختياراً؟
القضاء والقدر، كلمتان، يعبَّر بهما عن علم الله تعالى للأشياء، ووقوعها في الوجود حسب علمه، ليس أكثر.
فالقضاء – كما قال علماء هذا الشأن رحمهم الله تعالى – علم الله جل جلاله بالأشياء في الأزل على الصورة التي ستوجد عليها.
والقدر، وجود تلك الأشياء في عالم الظهور على وجه تفصيلي يوافق القضاء السابق.
فعلاقة قضاء الله تعالى بالأفعال أو الأشياء، ليست سوى علاقة علم بها وكشف لها قبل وقوعها، وهي من لوازم ألوهية الله تعالى بالبداهة، إذ من صفاته جل جلاله أن يعلم بكل ما هو كائن وما سيكون في الوجود. ولو أن الأشياء أو بعضها وجد أخيراً على غير الشكل الذي تعلق به علم الله في الغيب، لانقلب علمه جهلاً، وذلك محال في ذات الله تعالى كما هو معلوم.
ومن الأمور الواضحة لكل ذي فكر وعقل، أن مجرد العلم بوقوع شيء ما، ليس مؤثراً في وجوده. وإنما يوجد ذلك الشيء – على كل حال – بسلسلة علله وأسبابه، لا بعلم العالم أو جهل الجاهل، تلك حقيقة من أظهر الظاهرات وأوضح الواضحات.
وإنما مثل قضاء الله تعالى في الأشياء – ولله المثل الأعلى – كمدرِّس أوتي فراسة وخبرة بحال تلاميذه، ودرجة النشاط والجد لدى كل منهم. فسجل في دفتر مذكراته أن فلاناً منهم سيرسب في نهاية العام وأنَّ الآخر سيفوز وينجح، ثم طوى دفتره، وأقبل إليهم لا يألوا جهداً في إرشادهم وتعليمهم ونصحهم، حتى إذا كانت نهاية العام وقع ما كان قد أمله المدرس وعلم به: أرأيت لو أن أحدهم اطلع على ما كان قد سجله المدرس لديه في شأن كل منهم، فراح يزعم أن الأستاذ أجبر تلاميذه بما قد علم من شأنهم، وأنه سيَّرهم بذلك إلى ما انتهوا إليه تسييراً وأرغمهم على ذلك إرغاماً – أيكون هذا الكلام مقبولاً في ميزان عقل أي عاقل؟!
وإنما علاقة قضاء الله تعالى بالأفعال التخييرية لعباده، من هذا القبيل بالضبط والتمام. فهو ليس إلا علمه بأنه سبحانه سيخلقك عاقلاً، مريداً، مختاراً، لتكون بذلك مكرماً على المخلوقات كلها، وأنك ستمارس عقلك وإرادتك وإختيارك التصرفات والأفعال، فتختار منها: كذا.. وكذا.. وكذا..
وقد أقبل شيخ إلى علي كرم الله وجهه، بعد إنصرافه من صفين، يسأله: أخبرني عن مسيرنا إلى الشام، أكان بقضاء الله وقدره؟ فقال: والذي خلق الحبة، وبرأ النسمة، ما وطئنا موطئاً، ولا هبطنا وادياً، ولا علونا تلعة، إلا بقضاء الله وقدره. فقال الشيخ: عند الله أحتسب عنائي، ما أرى لي من الأمر شيئاً. فقال له: مه أيها الشيخ!.. عظم الله أجركم في مسيركم وأنتم سائرون، وفي منصرفكم وأنتم منصرفون. ولم تكونوا في شيء من حالاتكم مكرهين، ولا إليها مضطرين. فقال الشيخ: فكيف ساقنا القضاء والقدر؟ فقال: ويحك لعلك قضاء مجبراً، وقدراً قاسراً، لو كان ذلك لبطل الثواب والعقاب، والوعد والوعيد، والأمر والنهي، ولم تأت لائمة لمذنب، ولا محمدة لمحسن، ولم يكن المحسن أولى بالمدح من المسيء، ولا المسيء أولى بالمدح من المحسن. تلك مقالة عبدة الأوثان وجنود الشيطان وشهود الزور وأهل العمى عن الصواب. إن الله أمر تخييراً ونهى تحذيراً، وكلف يسراً، ولم يُعص مغلوباً ولى يُطَعْ مستكرهاً، ولم يرسل الرسل إلى خلقه عبثاً، ولم يخلق السموات والأرض وما بينهما باطلاً ذلك ظن الذين كفروا، فويل للذين كفروا من النار.
فهذا هو معنى القضاء الذي يجب الإيمان به. ولست أدري مصدر الغلط البيِّن الذي يقع فيه بعض الناس، إذ يتوهمون أن القضاء يوجه أفعال الناس بسوط الجبر والإلزام، مع أن القضاء – كما قلنا – علم الله تعالى، وهو لا يتعلق بفعل الإنسان إلا من حيث أنه يؤديه بكامل اختياره وإرادته.
قال: فما معنى قوله تعالى إذن: "فَإِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء" وقوله: "وَمَن يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ"؟ وفي القرآن الكثير من الآيات الواردة بهذا المعنى، وهي في جملتها تدل على أن الناس إنما يسعدون ويشقون بهداية الله أو إضلاله إياهم.
قلت: مما لا ريب فيه أن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء، ويفعل بعباده ما يريد، ولو لم يكن كذلك لكانت قدرته مشوبة بالعجز، ولكانت مشيئته غير صافية عن الجبر. ولا ريب أنه مالك هذا الكون كله، الأرض جميعاً قبضته يوم القيامة، والسماوات مطويات بيمينه، لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون، ولو لم يكن كذلك، لكان في الكون ما هو داخل في سلطان غير سلطانه، ولكان ثمة حكم آخر من وراء حكمه في الخلائق والعالمين. وتعالى الله إله العالمين عن ذلك كله علواً كبيراً.
غير أن هذه الحقيقة، لا تخل بشيء مما هو ثابت مقرر، من أن الله تعالى جعل الإنسان مخيَّراً فيما يتعلق به التكليف من تصرفاته وأعماله، وأن القضاء هو علمه الأزلي بما سيختاره الإنسان مريداً غير مكره.
وبيان ذلك، أن الله تبارك وتعالى جهز جميع المكلفين من عباده، بقدر مشترك من الطاقة والعقل والإختيار، جعله مناط التكليف في حقهم. فبذلك تتكافأ لديهم فرص المبادرة إلى تطبيق أوامر الله تعالى وإلتزام شريعته، ويستوون في أنهم جميعاً يتصفون بأصل الأسباب التي تهيئهم للتكليف وتلقي الأوامر، حتى إنه إذا فقد أحدهم سبباً من هذه الأسباب، كالطاقة أو العقل أو الإختيار، انقطعت عنه تبعة التكاليف واستثني من عموم الجماعة التي يتعلق بها خطاب التكليف من الله عزوجل.
ولكن الناس بعد أن ينطلقوا من هذا القدر المشترك الذي وضعهم في صف واحد، فوق صعيد العدالة الإلهية، يختلفون في مدى استعمالهم للأجهزة التي ملكهم الله إياها من عقل وإرادة وطاقة، ويسلكون في ذلك طرائق قدداً فمنهم من يفتح عقله لإدراك آيات الله من حوله، ويستجمع طاقته لتطبيق أوامره وأحكامه، ويستعمل إرادته للميل إلى جانب الخير، وينظر إلى ما يعتلج في نفسه من الشهوات والأهواء التي تحاول أن تسعى به إلى الشر، فيرمق بطرفه السماء، ويقبل على الله في دعاء منكسر يفيض بالعبودية له، أن يعينه في أمره ويوفقه للتمسك بأحكامه. فمثل هؤلاء، تدركهم ألطاف الله تعالى وفضله، فيزيد إلى طاقاتهم طاقة أخرى من توفيقه، ويزيد إلى عقولهم عقلاً آخر من هدايته، ويضع في إرادتهم معنى العزيمة والإصرار. تجد هذا واضحاً في الكثير من آيات الكتاب الكريم، مثل قوله عزوجل: "وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى" وقوله: "وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ" وقوله: "يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ" وقوله: "إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ".
ومنهم من يعمد – من أول المنطلق – فيضع عقله في غطاء عن ذكر الله وآياته، ويصرف طاقته عن القيام بأمر الله وحكمه، ويضع إرادته في اسار شهواته وأهوائه، ويبدو لكل من يحاول أن يذكره بطرف من هدي الله وحكمه، أنه مقرر – سلفاً – أن لا يفهم شيئاً مما يُلقى إليه، وهم الذين وصفهم الله بقوله: "وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ" فهؤلاء هم الذين يحيق بهم مكر الله وعقابه في الدنيا قبل الآخرة: فيوقعهم في مزيد من الغواية والضلالة العقلية، ويذيب إرادتهم فيما يضرمه عليهم من سعير الشهوات والأهواء الجانحة، ويبتليهم بمزيد من الإنصراف عن موعظة المذكِّرين وآيات الله في العالمين. تجد هذه السنة الإلهية واضحة أيضاً في الكثير من آيات الكتاب المبين، مثل قوله تعالى: "سَأَصْرِفُ عَنْ
آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً" وقوله: "يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ" وقوله: "وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ" وقوله: "فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً" وقوله: "كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ".
وإذاً، فإن الله جل جلاله يهدي من يشاء ويضل من يشاء، أي أنه لا يعجزه شيء عن أن يقذف أسباب الهداية الجبرية في قلب أضل الكافرين والمارقين، وأن يقذف أسباب الضلالة في قلب أصلح عباده المؤمنين. ولكنه سبحانه، كتب على نفسه – تفضلاً منه وإحساناً – أن لا يضل من الناس إلا من تعرض لأسبابها وصرف عن نفسه وسائل الهداية التي أنعم بها عليه، وأن يقرب أسباب الهداية والتوفيق لكل من عزم على استجابة أمر الله وتكاليفه، وبسط يد العبودية نحوه يسأله العون والتأييد.
وهذا كله يأتي من وراء القدر المشترك الذي منحه لجميع المكلفين: من أصل الطاقة والعقل والإرادة، الذي استقرت به حجة الله على الناس في أمر التكليف.
قال: فأخبرني عن ذلك الذي قلت عنه: إنه وضع عقله في غطاء عن ذكر الله وسماع الحق وألقى إرادته في إسار شهوته، أليس ما فعله بنفسه بإرادة من الله عزوجل؟
قلت له: فأصغ إليَّ بإمعان، لتعلم أن هذا الشباك الذي غبر إبليس حياته كلها، يحمله على ظهره، ليغوي به أفئدة الناس، شباك أخرق لا تضبطه مسكة من عقل، وأنى له ذلك؟! ولو خلق العقل في صورة إنسان من الخلائق، لاكتسى رداء العبودية لله عزوجل قبل أي مخلوق آخر من الناس؟
إن الله عزوجل، حينما خلقك مختاراً، أراد ولا شك أن تكون كذلك، أي إن إرادته متعلقة بإيجاد سر ((الإختيار)) في كيانك. فإذا عمدت أنت، واكتسبت به إثماً من الآثام، فإن تلك الإرادة تتعدى إليه عن طريق أصل الإختيار الذي تولد منه عملك هذا. ولو كان ما اكتسبته طاعة، لتعدت إليها الإرادة أيضاً بنفس هذا الطريق. وتعلق الإرادة الإلهية بتصرفاتك – على هذا الوجه – لا يعني أي جبر أو إكراه.
ودعني أضع أمامك، مرة أخرى، مثالاً مقرباً لذلك: أرأيت لو أن رجلاً شك في أمانة خادمه، وأراد أن يختبره، فأعطاه قدراً من المال، وكلفه أن يذهب به إلى بعض الفقراء ليتصدق به عليه، وأرسله إلى تلك الوجهة بدون أي رقيب يصحبه أو يأسره، اللهم إلا ما زوده به من النصيحة والتحذير. فإن مما لا ريب فيه، أن إرادة الرجل إنما تعلقت أولاً وبالذات بإختباره، أما ما يتولد عنه الإختبار بعد ذلك، من خيانة الخادم بسرقة المال، أو أمانته بإعطائه لمن كلفه بإعطائه له، فإنما تتعدى إليه الإرادة عن طريق تعلقها بجذع الإختبار العام الذي لابد أن تتولد منه إحدى هاتين النتيجتين، لا أن إرادة السيد تعلقت مباشرة بأن يختار الخادم سرقة المال أو المحافظة عليه لأصحابه، إذ لو كان كذلك لتعارض هذا مع ما قصد إليه من أصل الإختبار والتجربة.
وإذاً، فإن الإرادة الإلهية متعلقة بكل ما يمكن أن يكسبه الإنسان من التصرفات والأعمال، ولكن لا على وجه الجبر والإلزام لواحد معين منها، بل على وجه أن يتخير منها ما يشاء بمحض ما أودعه لديه من معنى الإرادة والإختيار.
قال: فقد والله زايلني الشك، وانجابت عن فكري غمة هذا الأمر، وكأنما نشطت من عقال. ولكن دعني أسألك هذا السؤال الأخير: لا ريب أن الله قادر على أن يهدي جميع عباده، فلماذا لا يهديهم ولا يزيل عقبات الشهوات والأهواء من طريقهم؟
قلت: لو فعل ذلك: لما كان لتكليفهم معنى، لأن الطاعات والعبادات تصبح إذ ذاك من مستلزمات طبائعهم وحاجات عيشهم، كالطعام والشراب، ولما استأهلوا بأعمالهم هذه لشيء من الأجر والمثوبة، ولما استقام لهم أن يكونوا أكرم المخلوقات عند الله تعالى، وأن يكون مؤمنوهم أكرم عنده حتى من الملائكة. ولقد صنف الله مخلوقاته إلى أنواع وأقسام، فميز كلاً بطبيعة، وركب في الإنسان من الطبائع ما جعله أفضل مخلوق على الإطلاق. ولله أن يفعل بمخلوقاته ما يشاء لا رادَّ لمشيئته وحكمه.
ولما استوفز ليقوم، قلت له: على رسلك، فقد كان كل ما سمعته صوت المنطق والبحث الفكري، وبقي أن تعي من وراء ذلك صوت العبودية لله عزوجل.
هب – أيها الأخ – أن الله تبارك وتعالى، لم يشأ إلا أن يسوق قسماً من عباده بسياط القسر والإكراه إلى النار فيقذفهم فيها عنوة وابتداءً ولم يشأ إلا أن يسوق القسم الآخر بنفس الوسيلة جنة خلده فيكرمهم بها منحةٍ وابتداء: أفيوجد في هذا الملكوت كله من يستطيع أن يناقشه الحساب، ويقول له: لم؟.. قال: لا.
قلت أفيوجد من وراء ملكوت الله كله، كونٌ آخر لا يخضع لسلطان رب العالمين، حين يلتجئ أحدنا إليه، ويعلن من هناك استنكار ما يريد أن يستنكره من القوانين والأحكام؟ قال: لا.
قلت: فإذا كان هو وحده مالك الملك كله، أفليس من حق المالك أن يتصرف بملكه كما يشاء؟ قال: بلى.
قلت له: فتعال يا أُخَيَّ نلزم باب العبودية لرب الأرباب، فقد كدنا أن نشرد عنه إلى شقاء الغواية والإضطراب، تعال.. فلا مفرَّ من الله إلا إليه، ولا ملاذ من عذابه إلا بالخضوع لسلطانه، ولا عليك ممن استكبر فوق قمامة من الجهل، واعتلى فوق عيدان من الوهم. فسوف يقدم الجميع إلى الله من باب العبودية صاغرين مطأطئين: "إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا، لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا، وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا" صدق الله العظيم.
| |
|